سابقة قضائية تهز أروقة العدالة: حكم جنائي تاريخي ينصف مواطنًا ضد التأمينات الاجتماعية
✍️ بقلم: أ. صابر هشام – المحامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة
في مشهد قضائي نادر، كتب القضاء المصري صفحة جديدة في كتاب العدالة، عندما أصدرت محكمة كفر صقر الجزئية حكمًا تاريخيًا في إحدى القضايا الجنائية، لتنتصر فيه لصوت الحق وتعيد الاعتبار لتطبيق أحكام المحكمة الدستورية العليا، في مواجهة أحد أقوى أجهزة الدولة البيروقراطية: الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية.
🔹 انتصار قانوني غير مسبوق
تمكّن الأستاذ محمود محمد الشافعي، المحامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة، من تحقيق سابقة قانونية، تُعد الأولى من نوعها، بالحصول على أول حكم جنائي يُطبق حرفيًا حكم المحكمة الدستورية العليا بشأن المادة الرابعة من قانون الحجز الإداري، وذلك في مواجهة الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية، التي قامت بالحجز الفوري على ممتلكات أحد المواطنين بالمخالفة لنصوص القانون والدستور.
🔹 وقائع الدعوى: خرق صريح لقانون المرافعات والدستور
في القضية رقم ١٢١٥٣ لسنة ٢٠٢٤ جنح كفر صقر، أقدمت هيئة التأمينات على توقيع حجز إداري فوري على ممتلكات المتهم، دون منحه المدة القانونية المنصوص عليها في المادة 281 من قانون المرافعات، التي توجب منحه مهلة 24 ساعة على الأقل قبل توقيع الحجز، وهو ما يُعد خرقًا جسيمًا للقانون.
لكن الأخطر من ذلك، أن الهيئة استندت في إجراءاتها إلى عبارة قضت المحكمة الدستورية بعدم دستوريتها، وهي عبارة: “ويُشرع فورًا في توقيع الحجز” الواردة بعجز المادة الرابعة من قانون الحجز الإداري رقم 308 لسنة 1955، والتي أُبطلت بموجب حكم المحكمة الدستورية الصادر في القضية رقم 185 لسنة 32 ق دستورية.
🔹 حكم المحكمة: براءة وإدانة للإجراءات
برئاسة المستشار محمود الصافي، وعضوية الأستاذ أحمد حازم (وكيل النيابة) وسكرتير الجلسة الأستاذ محمد عبد البديع، أصدرت محكمة كفر صقر حكمها التاريخي ببراءة المتهم، مؤكدة أن محضر الحجز الإداري قد تم بناء على نص قانوني محكوم بعدم دستوريته، مما يجعل الإجراءات باطلة وما بُني عليها ساقط قانونًا.
وجاء في حيثيات الحكم أن “الأحكام الصادرة بعدم دستورية نصوص قانونية تُعد من النظام العام، ولا يجوز تطبيق النصوص المقضي بعدم دستوريتها اعتبارًا من اليوم التالي لنشر الحكم في الجريدة الرسمية”، مشيرة تحديدًا إلى نشر الحكم الدستوري في الجريدة الرسمية بتاريخ 12 مايو 2019.
🔹 دور الدفاع: إصرار على العدالة رغم التجاهل
في تصريحاته، عبّر الأستاذ محمود الشافعي عن سعادته البالغة، مؤكدًا أن هذا الحكم ليس فقط انتصارًا لموكله، بل نموذجٌ يُحتذى به في تسبيب الأحكام القضائية وتطبيق صحيح القانون. وأوضح أن هذا الدفع بعدم الدستورية كان قد أبداه مرارًا منذ عام 2019، إلا أن بعض المحاكم لم تُولِه الاهتمام اللازم، حتى جاء هذا الحكم ليؤكد أنه لا يصح إلا الصحيح.
وأضاف الشافعي في عبارته اللافتة:
“قوة القانون لا تكمن في ترديده داخل الكتب، بل في تطبيقه الصارم داخل قاعات المحاكم. والعدالة ليست وجهة نظر، بل التزام واضح بنصوص القانون والدستور.”
🔹 صدى واسع في الأوساط القانونية
لاقى الحكم ترحيبًا كبيرًا من قبل المحامين والقضاة والباحثين القانونيين، الذين اعتبروه بمثابة بداية تصحيح حقيقي لمسار الحجز الإداري في مصر، والذي طالما شُوه بممارسات تخالف القانون تحت شعار تحصيل المستحقات الحكومية.
كما أثنى كثيرون على المستشار محمود الصافي رئيس الدائرة، لحرصه على تحقيق العدالة لا الشكلية، ولقيامه بتسبيب حكمه استنادًا إلى مبادئ دستورية عليا وأسس قانونية راسخة.
🔹 خاتمة: رسالة أمل في وجه التعسف الإداري
إن هذا الحكم لا يُعد فقط براءة لمتهم وقع عليه ظلم إداري، بل هو درسٌ بالغ الأهمية في صيانة الدستور وتفعيل دوره في حماية الحقوق والحريات، وجرس إنذار لكل جهة تنفيذية تتجاوز القانون أو تستخف بأحكام المحاكم العليا.
ويثبت هذا الحكم أن القضاء المصري، لا يزال السد المنيع والحصن الأخير للعدالة، وأن في مصر قضاة ومحامين لا يفرّطون في حق المواطن، ولا يخضعون لضغوط المؤسسات.